الشرق الأوسط لم يعد يصدّقكم: الطائفية كذبة انتهت صلاحيتها

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

الشرق الأوسط لم يعد يصدّقكم: الطائفية كذبة انتهت صلاحيتها

لأكثر من عقدين، أُجبر الشرق الأوسط على تفسير مآسيه بلغة واحدة: الطائفة.

كل حرب قُدِّمت على أنها صراع هويّات، كل انهيار فُسِّر كمظلوميّة، وكل فشل جرى تبريره بالخوف من “الآخر”. هذه اللغة لم تكن توصيفًا بريئًا، بل اختزالًا كسولًا سمح للميليشيات، ولرعاتها، وللباحثين المتواطئين بالصمت، أن يحكموا المنطقة دون مساءلة.

لكن هذه اللغة لم تعد تعمل.

الوقائع اليوم تقول شيئًا مختلفًا، بل نقيضًا. المجتمعات التي قيل إنها أسيرة انتماءاتها المذهبية هي نفسها التي تمرّدت على من حكم باسم تلك الانتماءات. الاحتجاجات، والانهيارات، والتحوّلات السياسية الأخيرة لم تكن تعبيرًا عن “انفجار طائفي”، بل عن سقوط شرعية مشاريع ادّعت تمثيل الطوائف بينما دمّرت الدول.

الطائفية لم تكن يومًا محركًا طبيعيًا للسياسة، بل بديلًا عن الدولة عندما تُفرَّغ من مضمونها. وحين غابت الدولة، لم تتقدّم المجتمعات خطوة إلى الأمام، بل تقدّمت شبكات السلاح والزبائنية والاقتصاد الموازي. ثم قيل للناس إن هذا هو قدرهم.

ليس كذلك.

الخلط المتعمّد بين النهضة الدينية والتعبئة السياسية هو أحد أكبر أشكال التضليل في قراءة الشرق الأوسط. التدين لا يعني بالضرورة ولاءً سياسيًا، والهوية لا تنتج تلقائيًا مشروعًا سلطويًا. ملايين الناس يمارسون إيمانهم يوميًا دون أي رغبة في أن يكونوا جنودًا في حروب لا تخصّهم.

ومع ذلك، استمر بعض الفاعلين الإقليميين والدوليين في التعامل مع المجتمعات العربية وكأنها كتل مذهبية صمّاء، قابلة للاستدعاء متى لزم الأمر. هذا الافتراض لم يكن خاطئًا فحسب، بل كان مريحًا: لأنه أعفى الجميع من مواجهة السؤال الحقيقي — لماذا فشلت الدولة؟ ومن المسؤول؟

اليوم، تتغيّر المعادلة.

الشرق الأوسط يدخل مرحلة لا تُقاس فيها القوة بعدد البنادق، بل بقدرة الدول على العمل: الطاقة، البنية التحتية، التجارة، والخدمات. النفوذ لم يعد يُبنى على الشعارات، بل على الموانئ، وخطوط الربط، والاستثمار طويل الأمد. ومن لا يرى هذا التحوّل، سيبقى عالقًا في معارك القرن الماضي.

الأخطر أن الإصرار على إعادة تدوير السردية الطائفية بعد كل هذا الانكشاف، لم يعد مجرد خطأ تحليلي، بل إهانة لعقل المجتمعات. الناس لا تطلب حماية هويتها بقدر ما تطلب حماية حياتها. لا تبحث عن “محور”، بل عن دولة.

الطائفية السياسية لم تنهَر لأنها هُزمت عسكريًا، بل لأنها فشلت في الإجابة عن أبسط سؤال: ماذا بعد السيطرة؟ ماذا بعد السلاح؟ ماذا بعد الخراب؟

لا أحد يملك جوابًا.

ولهذا، فإن المستقبل في الشرق الأوسط لن يُكتب بلغة الخوف، بل بلغة المحاسبة. لن تقوده الهويات، بل الكفاءة. ولن تصنعه الميليشيات، بل الدول — إن أُعطي لها أخيرًا حق الوجود.

الطائفية كانت أداة سلطة.

وقد استُهلكت.

ومن يصرّ على استخدامها اليوم، لا يسيء قراءة المنطقة فقط،

بل يعلن من حيث لا يدري  

 أنه خارج زمنها القادم.