لبنان بلا قرار: سطوة السلاح أم سذاجة اللغة؟
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في الخامس من سبتمبر، جلس اللبنانيون أمام مشهد مألوف حدّ الملل، ومخيف حدّ الانفجار: مجلس وزراء يتهرّب من اتخاذ قرار سيادي حاسم، ويستعيض عنه بلعبة لغوية عنوانها «الترحيب». ترحيبٌ بخطة غامضة وضعها الجيش اللبناني لحصر السلاح، بلا تصويت، بلا جدول زمني، وبلا جرأة على تحويلها إلى سياسة وطنية مُلزمة.
هذا المشهد ليس تفصيلاً عابراً. إنه عودة مريعة إلى ثقافة مراوغة ظنّ اللبنانيون أنها دُفنت مع خطاب القسم والبيان الوزاري. لكن الحقيقة أنّ السلطة السياسية ما زالت تفضّل إدارة الأزمات بالكلمات المواربة على مواجهتها بالقرارات الشجاعة. إنها «سياسة الهروب» التي جعلت لبنان دولة بلا سيادة فعلية، وتركته أسيراً لسلاح ميليشيا تصادر القرار الوطني.
ما هو أخطر من غموض الخطة نفسها، أنّ السلطة تبنّت – عن قصد أو عن ضعف – السردية نفسها التي يروّجها «حزب الله». ربط التنفيذ بـ«التزام إسرائيل» أولاً، وبـ«القدرات المتاحة» للجيش ثانياً، ليس سوى مصادقة غير مباشرة على منطق الحزب.
فحين تقول الحكومة إن السلاح ضروري ما دام الاحتلال قائماً، فإنها تُثبّت حجة الحزب. وحين تُقرّ بضعف الجيش، فهي تمنحه شهادة مجانية بأن الدولة عاجزة، وأنه وحده القوة «اللازمة» لحماية لبنان.
اللبنانيون لم يُخذَلوا فقط بسلاح الميليشيا، بل بخيانة ثقافة سياسية تحوّل اللغة إلى وسيلة للهروب من الحقيقة. هذه الثقافة أنتجت طاولات حوار عقيمة، ولجاناً دُفنت في الصمت، وبيانات وزارية رخوة. والنتيجة: شراء الوقت لصالح السلاح، مقابل خسارة الدولة كل أوراق قوتها.
إنها الخديعة الكبرى: سياسيون يظنّون أن الكلمات يمكن أن تحلّ محل القرارات، وأن الغموض الاستراتيجي يقيهم مواجهة الحقيقة. لكن ما يثبت يوماً بعد يوم أن هذه اللغة الرمادية لا تشتري سوى المزيد من الانهيار، والمزيد من الارتهان لهيمنة السلاح.
هذه ليست أزمة لبنانية محلية فقط. إنها رسالة خطيرة إلى المجتمع الدولي: أن لبنان دولة تُقرّ بعجزها وتستسلم لسلاح خارج سيادتها. ماذا يبقى من الثقة الدولية بدولة تفضّل «التحايل اللغوي» على سيادتها؟ وكيف يمكن للعرب والعالم أن يراهنوا على بلدٍ ينقضّ على نفسه بكلمات رخوة كلما سنحت له فرصة تاريخية؟
لقد آن للبنانيين أن يدركوا أن المستقبل لا يُبنى على انتظار معجزة خارجية، ولا على وساطات تُعيد إنتاج الأزمة. الدولة إما أن تكون المرجع الوحيد للقوة، أو لا تكون. السيادة لا تتجزأ، ولا تُدار بـ«الترحيب» ولا بـ«القدرات المتاحة»، بل بقرار سياسي صريح يعيد الاعتبار للدولة وجيشها.
إن لبنان اليوم أمام مفترق خطير: إمّا أن يختار مواجهة الحقيقة، أو أن يستمر أسيراً لسلاح يفرض وصايته، ولسياسيين يكتفون بالتحايل اللفظي. الخيار لم يعد ترفاً، بل شرطاً لبقاء الوطن.