لبنان بين بيت العنكبوت ووهم القوة: حين يصبح النصر طريقاً إلى الفناء

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبدالحميد عجم

لبنان بين بيت العنكبوت ووهم القوة: حين يصبح النصر طريقاً إلى الفناء

في زمنٍ يختلط فيه الصراخ بالنشيد، ويُقاس النصر بعدد المقاطع المصوّرة لا بعدد الأحياء الذين بقوا واقفين، يجد لبنان نفسه على حافة الهاوية من جديد. بين ضجيج التحذيرات الإسرائيلية وتصريحات «الجهوزية» من قيادة حزب الله، تضيع الحقيقة الوحيدة التي لا تحتاج إلى بيانات عسكرية لتُثبت: أن الحرب المقبلة، إن اشتعلت، لن تُبقي شيئًا من لبنان إلا الأطلال.

منذ عقود، أتقنت إسرائيل لعبة تضخيم خطر «حزب الله» لتبرير حروبها، وأتقن الحزب لعبة الاستهانة بإسرائيل لإبقاء جمهوره مشحونًا بالأمل. لعبة متبادلة، لكنها قاتلة للطرف الأضعف دائمًا: لبنان.
في «حرب الإسناد» الأخيرة، سقط القناع عن الطرفين: إسرائيل أثبتت خبثها التكتيكي المعتاد، و«حزب الله» كشف غباءه الاستراتيجي غير المعتاد. فبدل أن يردع العدوان، منح إسرائيل ذريعة مثالية لقتل قياداته واستهداف مدنييه، باسم «الردع».

اليوم، بينما تُعيد إسرائيل تسويق خطاب الخطر القادم من الجنوب، لا تفعل ذلك خوفًا من «ترسانة المقاومة»، بل بحثًا عن شرعية جديدة لدمار قديم. أما «حزب الله»، فيحتفل بهذه التحذيرات كأنها شهادات شرف، غافلاً أن كل صاروخ يُطلقه بلا حساب هو تذكرة مفتوحة نحو حرب لا يملك أدواتها.

أما إيران، حاضنة المشروع وراعية «الخط الأمامي»، فقد بدت في حربها الأخيرة عارية من أوهام القوة، تسقط في أيام ما بنته دعايتها في عقود. لم تُنشئ ترسانتها لحماية القدس، بل لحماية مصالحها. ولم تُرسل مقاتليها إلى الجنوب حبًا بلبنان، بل ليكونوا درعها في مواجهة الآخرين.

في خضم هذا الانكشاف، تُطلّ الدولة اللبنانية كشبحٍ في المشهد: ضعيفة، مُتهمة، لكنها الوحيدة القادرة ـ إذا أُعطيت الفرصة ـ على أن تكون مظلة البقاء.
رفض «حزب الله» أن يراها كذلك، فشكك في سيادتها، وهاجمها إعلاميًا، وألصق بها وزر كل حرب خاضها، رغم أنها لم تُقرر يومًا الدخول فيها. الحقيقة المرة أن اتفاق وقف النار لم يكن انتصارًا للمقاومة، بل إنقاذًا للحزب والطائفة والبلد من فناءٍ محقق.

لكن الأخطر من كل ذلك، أن هناك مراجعة صامتة، لكنها تتسع يومًا بعد يوم داخل المجتمع الشيعي نفسه. مراجعة لا تُعلن على الشاشات، بل تُقال همسًا في المقاهي والمنازل: «إلى متى سندفع ثمن أوهام النصر؟». الناس الذين خسروا أبناءهم ومنازلهم لم يعودوا يجدون عزاءً في خطابات «الجهوزية» ولا في الشعارات عن «التحرير المقبل». يريدون دولة تحميهم لا حركة تُغامر بهم.

في التاريخ، لا تنهض الأمم من إنكارها للهزيمة، بل من اعترافها بها. ألمانيا واليابان لم تنهضا من تحت الرماد إلا حين قالتا: «لقد أخطأنا الطريق». أما الشعوب التي تُصرّ على تقديس هزائمها، فمصيرها أن تُدفن تحت أنقاضها.
لبنان اليوم أمام خيار مماثل: إمّا أن يعترف بأن زمن الميليشيا قد انتهى، وأن السلاح خارج الدولة لم يعد درعًا بل خنجرًا في الخاصرة، وإمّا أن يدخل حربًا ستكون الأخيرة، لا لأن العدو سينتصر، بل لأن الدولة ستزول.

إن أعظم خطر على لبنان ليس إسرائيل، ولا إيران، بل استمرار الوهم بأن أحدًا غير اللبنانيين يستطيع أن يحمي لبنان. واللبنانيون لا يمكنهم حماية وطنهم إلا إذا كان علمهم هو السقف الأعلى، لا راية حزب ولا شعار طائفة.

اليوم تصل المبعوثة الأميركية إلى بيروت حاملة تحذيرًا صريحًا: «الحرب على الأبواب». لكن الحقيقة الأعمق أن الحرب ليست فقط على الأبواب، بل في النفوس والعقول. فإذا لم يتوقف اللبنانيون عن عبادة الأصنام السياسية، فإنهم سيفقدون حتى القدرة على دفن موتاهم.

لقد حان الوقت لأن نكفّ عن سؤال: من ينتصر؟، ونبدأ بسؤال أكثر جوهرية: من يبقى؟
ففي لبنان، البقاء نفسه بات أعظم أشكال المقاومة.