لبنان بين العاصفة والنسيان: وطن يبحث عن طاولة تفاوض تحفظ ما تبقّى من كرامته
بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

إسرائيل، بعيونها المتوترة بعد عملية “طوفان الأقصى”، لم تعد تقبل بالعودة إلى معادلات ما بعد 2006.
هي تريد حدودًا آمنة، وجنوبًا خاليًا من أي تهديد، وسلطة لبنانية تستطيع أن تضبط الأرض كما تضبط الخطاب.
ولأنها تعرف أن بيروت تعيش مأزقًا داخليًا عميقًا، فإنها تفاوض من موقع القوّة حتى وهي تُعلن الرفض.
في المقابل، يصرّ لبنان الرسمي على حصر التفاوض في “اللجنة الميكانيكية”، كأنه يتمسك بالشكل بعد أن ضاعت المضمون.
لكنّ شكل الطاولة لا يُعيد أرضًا، ولا يُرجع أسيرًا، ولا يمنح دولةً متهالكةً هيبةَ السيادة.
فالواقعية السياسية تقول إنّ الزمن لا ينتظر الشعوب التي تخاف من مواجهة الحقائق
الحديث عن “حصرية السلاح” في الجنوب لم يعد شعارًا سياديًا بقدر ما صار اختبارًا للقدرة الفعلية للدولة اللبنانية على الإمساك بالأرض.
هل تستطيع الدولة أن تطبّق القرار 1701 فعليًا؟
هل الجيش قادر سياسيًا وميدانيًا على أن يكون القوة الوحيدة في جنوب الليطاني؟
الجواب المؤلم أن التردّد اللبناني أضعف قدرته التفاوضية، وأن إسرائيل تستغل هذا التردّد لتقول للعالم: “لا شريك لبناني جاهز للسلام”.
ومع ذلك، لا يمكن للبنان أن يُسلّم بهذه المعادلة.
فالتاريخ علّم اللبنانيين أنّ الصمت في وجه الاحتلال لا يجلب سلامًا، وأن انتظار وساطات الآخرين لا يصنع سيادة.
ثمة خوفٌ عميق يتسلّل إلى بيروت: ماذا لو اشتعلت حربٌ جديدة بين إيران وإسرائيل؟
الكل يعرف أنّ لبنان لن يكون ساحةً جانبية، بل الميدان الأول للاشتباك.
حينها، لن تُسأل الأطراف عن "اللجان" و"الآليات"، بل عن القدرة على البقاء.
وهنا تكمن المأساة الكبرى: أنّ هذا البلد، الذي كان يُسمّى ذات يوم “سويسرا الشرق”، صار اليوم منطقة رمادية بين الحرب والسلام بلا قرار ولا تحصين.
ما يحتاجه لبنان اليوم ليس بيان شجب جديدًا من الأمم المتحدة، ولا وعدًا أميركيًا بحماية مؤقتة.
ما يحتاجه هو قرارٌ وطنيّ جريء يُعيد تعريف موقعه في الصراع:
قرار بأن التفاوض ليس ضعفًا، وأن التنازل ليس خيانةً إذا كان ثمنه استعادة الأرض ووقف الدم.
لبنان لا يريد أن يكون بندقيةً في يد أحد، ولا ورقةً في حقيبة وسيط، ولا جدارًا يحمي غيره من نيران الحرب.
إنه يريد فقط أن يكون دولة.
اليوم، يقف لبنان أمام مفترق تاريخي جديد
إما أن يُمسك بمصيره قبل أن يُكتب له من الخارج،
وإما أن يتحوّل إلى هامش في رواية الآخرين.
قد تسقط المبادرات وتتعثر اللجان، لكنّ الشعوب التي تؤمن بحقّها لا تسقط.
لبنان، إن أراد النجاة، عليه أن يعود إلى طاولة القرار لا طاولة الانتظار.
فالتاريخ لا يرحم المترددين، ولا يكتب فصوله سوى من يملكون الشجاعة ليقولوا:
"نحن هنا… ولن نموت بصمت."