نبيه بري يرسم خريطة التوازن اللبناني: تفاوض بلا تطبيع ولا حرب
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
في المشهد اللبناني المزدحم بالتناقضات، يطلّ رئيس مجلس النواب نبيه بريّ بدورٍ تقليدي متجدّد: صمّام الأمان بين الموقف الرسمي للدولة وخطّ «الممانعة» الذي يمثله «حزب الله».
فبعد البيان الذي أصدره الحزب مؤخرًا رافضًا أي «تفاوض سياسي» مع إسرائيل، جاء ردّ بريّ واضحًا: لا تطبيع، ولا بديل عن آلية اللجنة الدولية (الميكانيزم) التي تشرف على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الموقَّع في نوفمبر 2024.
هذا الموقف المزدوج
دعم الآلية ورفض التطبيع يعكس جوهر السياسة اللبنانية في مرحلة ما بعد الحرب: الموازنة بين الانخراط في الأطر الدولية والابتعاد عن أي مسار سياسي مباشر مع إسرائيل.
الآلية الدولية ليست اتفاقًا سياسيًا، بل إطارٌ تقني لإدارة وقف النار ومراقبة الخروق.
من هنا جاءت لغة بريّ: تأكيد التعاون ضمن اللجنة التي تضم لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة، مع رفض تحويلها إلى منصة سياسية أو تفاوض مباشر.
بهذه الصيغة، يحافظ بريّ على مساحة تفاهم مع المجتمع الدولي، ويمنع في الوقت نفسه أي توتّر مع «حزب الله» الذي يخشى أن تتحوّل اللجنة إلى بوابة سياسية جديدة.
في الداخل، أراد رئيس البرلمان أن يطمئن الحزب وبيئته بأن الآلية لا تمسّ الثوابت الوطنية، وأن لبنان لم يدخل مسار التطبيع الذي يخشاه كثيرون.
وفي الخارج، يوجّه بريّ رسالة مختلفة: لبنان ملتزم بآلية الأمم المتحدة وبإدارة التهدئة وفق المعايير الدولية، أي أنه شريك موثوق في حفظ الاستقرار جنوبًا.
بين الرسالتين، ينجح بريّ في إبقاء خيوط التواصل ممدودة مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية
من دون كسر أي جسر.
الخطاب الذي يقدّمه بريّ ليس تناقضًا، بل تجسيد لما يمكن تسميته الواقعية اللبنانية:
القدرة على قول «نعم» و«لا» في آن واحد، من أجل البقاء في مساحة التوازن التي تقي لبنان كلفة الاصطفافات.
فمن دون هذه المرونة، كان يمكن أن يتحوّل الخلاف حول الميكانيزم إلى أزمة سياسية جديدة.
يعرف بريّ، بحكم تجربته الطويلة، أن السياسة اللبنانية لا تُدار بالمواقف المطلقة، بل بإدارة التعقيد.
ولذلك يدافع عن الآلية الدولية باعتبارها «الحل الممكن» لضمان استمرار وقف النار ومتابعة الخروق، من دون أن يُفهم الأمر كقبول بتسوية سياسية أو اعتراف متبادل.
إنها محاولة لربط لبنان بمظلّة الشرعية الدولية دون أن ينفصل عن واقعه الداخلي المليء بالحساسيات.
يبقى هذا التوازن هشًّا بطبيعته: أي توتّر ميداني أو تصعيد سياسي يمكن أن يهدده.
لكن في الوقت نفسه، هو الوحيد القادر على حفظ الحد الأدنى من الاستقرار في لحظة تراجعٍ إقليمي وانقسام داخلي.
من هنا تأتي أهمية الخطاب المزدوج: دعم الآلية، رفض التطبيع، تثبيت السلم الأهلي، وتحاشي الانفجار.
ما فعله نبيه بريّ في الأيام الأخيرة هو ترميم المساحة الرمادية التي يحتاجها لبنان بين الصراع والتهدئة.
ففي بلدٍ لا يستطيع خوض حربٍ جديدة ولا توقيع سلامٍ شامل، تبدو هذه السياسة الواقعية هي الطريق الوحيدة للحفاظ على الدولة نفسها.
ولهذا، يمكن القول إنّ عبارة «لا للتطبيع» ليست رفضًا للسلام بقدر ما هي محاولة لبناء هدنة طويلة تُدار بالعقل لا بالعاطفة.