من ترسيم البحر إلى ترسيم المصير: لحظة القرار في لبنان.”

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

من ترسيم البحر إلى ترسيم المصير: لحظة القرار في لبنان.”

في زمنٍ تتقاطع فيه الخرائط بالدم، خرج صوت برّاك ليقولها بصراحة لم يجرؤ عليها كثيرون: “إذا فشل لبنان بالتحرك الآن، فسيواجه حزب الله مواجهة كبرى مع إسرائيل، وقد لا تبقى بعدها دولة ولا انتخابات ولا سيادة.” لم يكن ذلك مجرد تحليل استخباراتي، بل إعلان أن زمن المراوغة انتهى. لبنان يقف اليوم أمام مفترق تاريخي: إمّا أن يستعيد جيشه السلاح والقرار، أو يُدفن تحت ركام دولة لم تعرف كيف تحكم نفسها.

الرسالة التي أطلقها برّاك قبل أسابيع تحوّلت اليوم إلى خطة سياسية على الطاولة. فمع انتخاب الرئيس جوزف عون وتكليف نواف سلام، بدأت دوائر القرار في بيروت وواشنطن وباريس ترسم حدود مرحلة جديدة، عنوانها العريض: العودة إلى منطق الدولة. وبينما كانت العواصم الإقليمية تتحرك نحو تسويات كبرى بعد اتفاق غزة، أعلن الرئيس عون استعداد لبنان للتفاوض حول حدوده البرّية مع إسرائيل، مستندًا إلى التجربة “الناجحة” في ترسيم الحدود البحرية عام 2022.

هذا الإعلان لم يكن صدفة، بل ترجمة مباشرة للمقاربة الأميركية الجديدة التي تضع لبنان أمام اختبار سيادي كامل: هل يستطيع التحدث باسم واحد، أم سيبقى أسرى ازدواجية السلاح؟ وصول السفير الأميركي الجديد، اللبناني الأصل ميشال عيسى، إلى بيروت نهاية الشهر الجاري، ليس تفصيلاً دبلوماسيًا. إنه بداية مرحلة مراقبة دقيقة لكل خطوة، من الحدود إلى الإصلاحات، ومن الدعم العسكري إلى ملف حزب الله.

الحديث عن “مفاوضات غير مباشرة” عبر وسطاء أميركيين وأمميين هو في جوهره اختبار نيات. فلبنان، بحسب مصادر سياسية رفيعة، يريد أن يثبت أنه قادر على إدارة نزاعه ضمن المؤسسات، لا عبر الميدان. الرؤساء الثلاثة — عون، بري، وسلام — عقدوا اجتماعين مغلقين، اتفقوا خلالهما على مقاربة موحّدة تحفظ الثوابت الوطنية، وتفتح في الوقت نفسه باب الانخراط في «قطار التسويات» الذي تتحرك به المنطقة بسرعة غير مسبوقة.

لكن ما وراء هذه الدبلوماسية الهادئة هو سباق محموم بين الدولة والدويلة. فالمفهوم التفاوضي الجديد يعني عمليًا العودة إلى القرار 1701، أي التزام الجيش وحده بالانتشار جنوب الليطاني. هذا البند تحديدًا يُترجم ميدانيًا بمرحلة نزع تدريجي لهيمنة السلاح غير الشرعي، تمامًا كما ورد في خطة “الفرصة الأخيرة” التي كشفتها واشنطن وباريس بداية هذا العام. المعادلة بسيطة: كل خطوة نحو احتكار القوة الشرعية تعني دعمًا ماليًا واقتصاديًا جديدًا، وكل تراجع يعني عزلة أعمق.

في المقابل، لا يزال الداخل اللبناني يعاني من عقدة الخوف: الخوف من الفتنة، من الحرب، ومن السلاح الذي صار «ضمانة الطائفة» بدل أن يكون درع الوطن. لكن العالم لم يعد ينتظر. الروس يلوّحون بضرورة “التحوّل السياسي الكامل” لحزب الله، والفرنسيون يربطون أي دعم اقتصادي بخطة أمنية شفافة، والولايات المتحدة تمسك بخيوط اللعبة العسكرية والمالية معًا. الجميع متفق على أمر واحد: لا يمكن للبنان أن ينهض ما دام القرار موزعًا بين دولتين داخل حدود واحدة.

إن قبول لبنان بفكرة التفاوض ليس ضعفًا، بل استعادة لمبدأ الدولة. التفاوض غير المباشر، بوساطة دولية، هو ترجمة متأخرة لحقٍّ طبيعي: أن ترسم الدولة حدودها بلسانها، لا ببندقية أحد فصائلها. تمامًا كما كان ترسيم الحدود البحرية خطوة أولى نحو حماية ثروات الغاز، سيكون ترسيم الحدود البرية خطوة ثانية نحو حماية السيادة.

ومع ذلك، لا يزال الوقت ضيّقًا جدًا. برّاك حذّر من أن أي مواجهة كبرى قد تؤدي إلى تأجيل الانتخابات النيابية في أيار 2026 بحجة “الظروف الأمنية”. وهذا التأجيل سيكون بمثابة “انقلاب دستوري صامت”، ينسف ما تبقّى من الثقة بالنظام اللبناني. لكن إطلاق مسار تفاوضي ناجح، ولو غير مباشر، سيُسقط هذه الذريعة تمامًا. عندها سيُجبر الجميع على العودة إلى صندوق الاقتراع، لا إلى خنادق السلاح.

لبنان اليوم أمام لحظة نادرة: للمرة الأولى منذ عقود، تتلاقى إرادة الداخل والخارج على مبدأ السيادة. العواصم التي كانت تدير الملف اللبناني بمنطق “التهدئة المؤقتة”، باتت تدفع نحو “حلّ دائم” يقوم على نزع ذرائع السلاح غير الشرعي عبر اتفاق أمني-سياسي شامل. ولبنان، إن أحسن قراءة اللحظة، قادر أن يحوّل هذا المسار إلى إعلان ميلاد جديد لدولته.

الأسئلة الكبرى المطروحة اليوم ليست تقنية: هل تُرسم الحدود بهذه الصيغة أو تلك؟ بل سياسية بامتياز: من يرسم القرار في لبنان؟ ومن يملك سلطة الحرب والسلم؟ هذه المرة، لا يمكن الإجابة بالمناورة. فإما أن يكون لبنان دولة كاملة السيادة، أو أن يتحول إلى ساحة دائمة للتسويات المؤقتة.

في الفاتيكان، كان البابا فرنسيس يؤكد أن “لبنان في قلب الكنيسة والعالم”. عبارة رمزية تختصر المأساة والأمل معًا. فالعالم كله يرى في لبنان أكثر من وطن صغير — يرى فيه مختبرًا للعيش المشترك ودرسًا للسيادة. لكن هذا المختبر مهدد بالانفجار إذا استمرت أدوات الحرب في مصادرة قرارات السلام.

لبنان لا يحتاج إلى معجزة، بل إلى شجاعة سياسية حقيقية. شجاعة تقول إن السيادة ليست شعارًا فارغًا، بل سياسة دولة حقيقية. إنّ التفاوض اليوم ليس خيانة، بل إنقاذ. والجيش ليس طرفًا في صراع داخلي، بل عنوانٌ وحيد لوطنٍ ما زال يقاوم كي يبقى حيًّا.

في النهاية، لا أحد يملك رفاهية الانتظار. إما أن تختار بيروت طريق الدولة، أو يختارها الآخرون ساحة صراع جديدة. ولأن التاريخ لا يرحم المترددين، فهذه المرة لن تكون هناك فرصة ثانية.