لبنان يُهمل أبناءه في صمت: متى تصبح الصحة النفسية في مدارسنا حقاً لا ترفاً؟
بقلم أليسار عوّاد

في بلدٍ تتآكله الأزمات من كلّ صوب، يموت أبناؤه بصمت.
كريستوفر أبو شديد لم يكن أول من قرّر أن ينسحب من حياة لم تحتمله روحه، لكنه كان الصرخة التي لم نسمعها إلا بعد أن صمت. انتحاره لم يكن فعلًا فرديًا، بل مرآة تعكس وجوهنا جميعًا — مجتمعًا يصرّ على تجاهل الألم، يربّت على الكتف بدل أن ينصت، ويعتبر طلب المساعدة ضعفًا بدل أن يراه شجاعة.
لبنان اليوم يعيش أزمة صامتة لا تُقاس بالدولار ولا بانقطاع الكهرباء.
إنها أزمة نفسية جماعية، تُصيب الأطفال كما الكبار، وتضرب في جذور المجتمع دون أن تجد من يواجهها.
في مدارسنا، آلاف الطلاب يبتسمون في الصباح ويغرقون في العزلة بعد الظهر.
يُكتب في دفاترهم أن “الأداء ضعيف”، لكن لا أحد يكتب أنهم “يختنقون من الداخل”.
منذ سنوات، تعاملت المدارس مع “الأخصائي النفسي” كما تتعامل مع “مطفأة الحريق” مجرد ضرورة قانونية. يوضع اسمه في اللائحة، ولا أحد يعرف إن كان موجودًا فعلاً.
لكن بعد مأساة كريستوفر، سقط القناع.
المدرسة لم تعد فقط مؤسسة للتعليم، بل أصبحت جبهة الدفاع الأولى عن النفس البشرية.
الأخصائية النفسية التربوية جودي أسعد أكدت في حديثها أن وجود الأخصائي في المدرسة لم يعد رفاهية، بل واجبًا وطنيًا:
“الأخصائي هو من يلتقط صرخة الطفل قبل أن تتحول إلى مأساة.”
فهو يراقب لغة الجسد، يقرأ العيون، ويفهم ما لا يُقال بالكلمات.
لكن أين الأهل؟
المنزل هو المختبر الأول للعاطفة.
حين يعود الطفل حزينًا أو منسحبًا، لا يحتاج إلى محاضرة، بل إلى سؤال بسيط: “شو في؟”.
إن العلاقة بين الأهل والأخصائي النفسي ليست تبادل معلومات، بل شراكة لإنقاذ الأرواح.
حين يتعاون الطرفان، تُكشف الأزمات باكرًا قبل أن تنفجر، وحين يتجاهلان، تُكتب القصص المأساوية على صفحات الجرائد لا دفاتر المدرسة.
أن نطالب بوجود أخصائي نفسي في كل مدرسة لبنانية ليس ترفًا ولا تزيينًا للمناهج.
إنه حقّ أساسي مثل حق التعليم.
كيف نعلّم جيلاً لا يعرف كيف يتنفس تحت الضغط؟ كيف نبني مستقبلاً بأيدٍ ترتجف من القلق؟
نحن لا نحتاج إلى المزيد من الشعارات، بل إلى قرارات.
قرارات تُدرج الصحة النفسية ضمن أولويات وزارة التربية كما تُدرج الرياضيات واللغة.
في مجتمعٍ ما زال يرى في الطبيب النفسي “ترفًا للأغنياء” أو “عيبًا للعائلة”، علينا أن نصرخ بأعلى الصوت:
المرض النفسي ليس جنونًا.
طلب المساعدة ليس ضعفًا.
الصمت هو الخطر الحقيقي.
كل من سخر من صديقٍ يزور معالجًا نفسيًا، أو نصح ابنه بـ“السكوت بدل الكلام”، شارك من حيث لا يدري في بناء هذا الجدار من الخوف.
وصمة العار تقتل بصمت أكثر مما يقتل الاكتئاب.
كريستوفر، يا ابن هذا البلد المتعب، لم تمت وحدك.
معك ماتت قطعة من ضميرنا.
لكن ربما بموتك بدأت حياة جديدة لوعيٍ نحتاجه بشدة.
حياة تُدرك أن الإنسان لا يُقاس بما ينجز، بل بما يشعر.
حياة تُعيد للمدرسة دورها التربوي لا التعليمي فقط.
وحياة تُجبرنا على النظر في عيون أبنائنا بدل أن نبحث عن درجاتهم على الورق.
نريد مدارس فيها أكثر من سبورة وكتب…
نريد مدارس فيها أذن تسمع، وقلب يفهم، وعقل يحتضن.
نريد قانونًا يُلزم كل مؤسسة تعليمية بوجود أخصائي نفسي واحد على الأقل لكل 200 طالب.
نريد تدريبًا حقيقيًا للمعلمين لاكتشاف المؤشرات النفسية المبكرة.
ونريد إعلامًا يرفع الوعي بدل أن يكتفي بنشر المآسي.
لأن “الصحة النفسية حق إنساني عالمي”،
ولأننا ببساطة لا نريد أن نخسر كريستوفر آخر.