نعيم قاسم… آخر جنرالات الحرب في وطنٍ يبحث عن السلام
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في بلدٍ صغيرٍ أنهكته الحروب، ما زال حزب الله يعيش في ذاكرةٍ مجمدة عند عام 1982، وكأنّ الزمن توقّف عند لحظةٍ واحدة من الصراع. العالم تغيّر، والخرائط تبدّلت، والتحالفات تشكّلت ثم انهارت، فيما الحزب ما زال يرفع الشعارات نفسها، ويغذّي جمهوره بخطاب “المؤامرة” و”الانتصار الإلهي”، كأنّ اللبنانيين يعيشون في كهوف التاريخ لا في قلب القرن الحادي والعشرين.
لكن لبنان اليوم لا يحتاج إلى مقاومةٍ جديدة، بل إلى مصالحةٍ مع نفسه.
إلى سلامٍ داخلي يسبق أي سلامٍ خارجي.
إلى كسرٍ لحلقة الكذب السياسي التي جعلت من “العدوّ” شماعةً تُعلَّق عليها كل خيبةٍ وفشلٍ وانهيار.
منذ سنوات، يصرّ حزب الله على التصرّف كأنّ الدولة مجرد تفصيلٍ إداري، وكأنّ لبنان مزرعةٌ صغيرة ضمن رقعة نفوذٍ إقليميٍّ أكبر.
يتحدث عن “السيادة”، فيما السلاح يتجاوز سلطة الحكومة.
ينادي بالكرامة الوطنية، فيما القرار اللبناني مرتهن لإشارات تأتي من طهران.
يهاجم “التبعية للغرب”، فيما يُغرق البلاد في عزلةٍ عربية ودولية خانقة.
أيُّ مقاومةٍ تلك التي تُفقِد وطنها مقوّمات الحياة؟
وأيُّ سيادةٍ تلك التي تُدار بالوكالة عن محورٍ خارجي؟
اللبنانيون اليوم ليسوا بحاجة إلى خطبٍ تعبويّة، بل إلى كهرباء، وخبز، ودواء، وأمان.
لم يعد فيهم من يصدّق أن فقره سببه واشنطن أو باريس أو الرياض.
لقد فهم الناس أن العدو الحقيقي هو هذا النظام السياسي الذي يسرقهم باسم المقاومة، ويقمعهم باسم الدين، ويخيفهم باسم الأمن.
حزب الله، بما يمثله من عقلية “المحور المنتصر”، يرفض الاعتراف بأن كل انتصاراته العسكرية تحوّلت إلى هزائم اقتصادية وإنسانية.
اللبناني الذي كان يصفّق في الميادين صار اليوم يصفّ في طوابير البنزين.
الذي كان يرفع رايات النصر بات يرفع صوته طلبًا للدواء.
فأيّ انتصارٍ هذا الذي يُفقِد الإنسان كرامته؟
لبنان لا يحتاج إلى مزيدٍ من الشعارات، بل إلى اتفاق سلام داخلي صادق، سلامٍ بين اللبناني واللبناني، بين المواطن والدولة، بين الماضي والمستقبل.
فالمقاومة الحقيقية اليوم ليست في السلاح، بل في القدرة على مواجهة الذات، في أن يقول الحزب لنفسه: “لقد انتهى زمن الحرب، وجاء زمن الدولة.”
السلام لا يعني الخضوع، بل النضج.
والتخلّي عن لغة الرصاص لا يعني الضعف، بل القوة الحقيقية التي تنبع من الإيمان بأن الوطن لا يُبنى على الخنادق، بل على المؤسسات.
على الشيخ نعيم قاسم أن يدرك أن خطابه لم يعد يُخيف أحدًا، بل يُثير الشفقة السياسية.
فمن يتحدث باسم “السيادة” فيما حزبه يقرّر نيابةً عن الدولة، يفقد أهليته الأخلاقية.
ومن يهاجم “الفساد” فيما يغضّ الطرف عن فساد حلفائه، يفقد صدقيته.
ومن يرفع راية “الكرامة” وهو يجرّ لبنان إلى عزلةٍ تاريخية، لا يدافع عن وطنٍ بل عن مشروعٍ خارجيٍّ يتآكل من الداخل.
لبنان لا يُنقَذ بخطابٍ منبرِيّ، ولا بتهديداتٍ مكرّرة، ولا بإيماءاتٍ أيديولوجية عفا عليها الزمن.
لبنان يُنقَذ فقط حين يعترف الجميع، بمن فيهم حزب الله، أن الزمن تغيّر، وأن سلاح الأمس لا يبني مستقبل الغد.
لقد حان الوقت لأن يختار الحزب:
إما أن يكون جزءًا من الدولة،
أو أن يبقى أسيرًا لماضٍ انتهى ولن يعود.
أما اللبنانيون، فقد تعبوا من انتظار معجزةٍ لا تأتي.
إنهم يريدون فقط وطنًا طبيعيًا... بلا أوهام كبرى، ولا حروبٍ صغيرة، ولا خطباءٍ يبيعونهم “الكرامة” وهم يسرقون خبزهم كل يوم.