“من يمثل السُّنة في لبنان؟ زعماءٌ بلا شارع... وشارعٌ بلا صوت”
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

في بلدٍ أُنهك من الحروب والتسويات الكبرى، تقف الطائفة السنية اليوم أمام واحدة من أعقد لحظاتها التاريخية.
طائفة كانت يومًا شريكًا أساسيًا في صناعة الدولة الحديثة، تحوّلت اليوم إلى طائفةٍ يتيمة بلا قيادة، وبلا مشروع جامع، وبلا صوتٍ يعبّر عن نبضها الحقيقي.
تكرّ الأسماء ذاتها منذ سنوات: سعد الحريري، نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة، نواف سلام.
لكن ما لم يعد خافيًا على أحد هو أن هؤلاء الأربعة لم يعودوا يمثلون الناس، بل يمثلون مصالحهم، ويمارسون سياسة تقتات من النظام أكثر مما تواجهه.
لقد فقدت الحريرية السياسية معناها، وصارت ظلًا لتاريخٍ انتهى بصمتٍ مؤلم.
كانت الحريرية مشروع دولة، تقوم على الاعتدال والانفتاح وإعادة بناء لبنان بعد الحرب.
لكنها انتهت إلى تسوياتٍ متكررة مع منظومةٍ استهلكت الدولة والناس.
سعد الحريري الذي وُلد من إرثٍ وطني كبير، انسحب من المشهد في لحظة كان يُنتظر منه أن يواجه.
انسحب وترك وراءه طائفةً تبحث عن نفسها، وبلدًا يسأل: من يمثّل السُّنة اليوم؟
نجيب ميقاتي، رجل الأعمال الذي يجيد إدارة الملفات، لا قيادة الطائفة.
يتقن لغة التوازن والمصالح، لكنه يفتقد العمق الشعبي والرمزية الوطنية.
أما فؤاد السنيورة، فبقي سجين خطابٍ قديم فقد بريقه، وكأنّ الزمن لم يتحرك.
هو صوت من الماضي، لا مشروعٌ للمستقبل.
ثم جاء نواف سلام كأملٍ مؤقت في لحظة ارتباك.
رجل مثقف ودبلوماسي وهادئ، بدا للبعض أنه يمثل “البديل النظيف” داخل المشهد الملوث.
لكنّ الحقيقة ظهرت سريعًا: سلام لا يحمل مشروعًا للطائفة السنية، بل مشروعًا خارجيًا بملامح لبنانية.
هو صوت النخبة الدولية أكثر منه صوت الشارع المحلي.
وعندما طُرح اسمه لتشكيل الحكومة، رحّب به كثيرون بحذر، ثم تراجعوا بصمت.
فقد اكتشفوا أن الرجل لا ينتمي إلى معاناتهم، وأن رصيده في الخارج أكبر من امتداده في الداخل.
في ظل هذا المشهد، يبدو الشارع السني كأنه يعيش حالة يتيمة حقيقية.
لا صوتٌ واحد يوحّده، ولا قيادة تعبّر عنه، ولا خطاب يطمئنه.
منذ اتفاق الطائف، لم تكن الطائفة السنية بهذا الضعف، لا سياسيًا ولا معنويًا.
وما يزيد الطين بلة أن هذا الغياب لم يُفرض بالقوة، بل اختارته القيادات بنفسها عبر صفقات وصمتٍ وتسوياتٍ أنهكت مكانتها التاريخية.
الناس تشعر أن زعاماتها التقليدية لم تعد تمثلها، وأنها أصبحت جزءًا من المنظومة التي أكلت حقوقهم وأحلامهم معًا.
إنه الفراغ الأخطر في تاريخ لبنان الحديث، لأن غياب الصوت السني المعتدل يعني اختلال ميزان الدولة بأكملها.
في الشوارع، تسمع جملة واحدة تتكرر: “كنا شركاء في بناء لبنان، فكيف أصبحنا خارج قراره؟”
تلك ليست مجرد تساؤلات، بل صرخة مجتمعٍ يشعر أنه دُفع إلى الهامش.
فالشباب السني الذي نشأ على فكرة الاعتدال والانفتاح وجد نفسه اليوم بلا قيادة ولا مشروع ولا أملٍ سياسي.
بعضهم اختار الهجرة، وبعضهم الصمت، وبعضهم الغضب المكتوم الذي يزداد كل يوم.
الطائفة السنية لم تسقط لأنها ضعيفة، بل لأنها تُركت عمدًا بين سلطة عاجزة وزعامات متعبة.
وفي عمق هذا الانكسار، تولد صرخة لا تشبه ما قبلها.
صرخة تخرج من الأزقة والأسواق، من المساجد والمدارس، من طرابلس وصيدا وبيروت:
“لسنا تابعين لأحد، نريد من يمثلنا لا من يستخدمنا.”
لم تعد الطائفة تطلب زعيمًا بقدر ما تطلب قيادة صادقة، تعرف أن السياسة ليست امتيازًا بل أمانة، وأن الكرامة لا تُشترى بالمناصب.
الناس لم تعد تنخدع بالشعارات، ولم تعد تثق بالابتسامات المصقولة ولا الخطابات المصوغة بلغة الخارج.
تريد من يعيش وجعها، لا من يصفه أمام الكاميرات.
إنها لحظة الحقيقة.
فإما أن يخرج من داخل الطائفة السنية جيل جديد نظيف الفكر، وطنيّ الهوية، لبنانيّ الانتماء، يعيد الاعتبار لدورها في بناء الدولة،
أو أن يستمر الفراغ الذي سيتحوّل مع الوقت إلى اختلالٍ وطني لا يمكن إصلاحه.
فغياب السنّة ليس غياب طائفة، بل غياب ميزان الاعتدال الذي قام عليه لبنان.
وإذا لم يسمع النظام اللبناني هذه الصرخة الآن، فسيجد نفسه أمام وطنٍ بلا وسط، بلا توازن، وبلا أمل.