‎تسوية على حساب الحقيقة: لماذا يريد الأميركيون بقاء بري اللاعب الأقوى؟

بقلم الكاتب و الباحث السياسي عبد الحميد عجم

‎تسوية على حساب الحقيقة: لماذا يريد الأميركيون بقاء بري اللاعب الأقوى؟

ما يُسوَّق اليوم كـ“خطة حصر السلاح بيد الدولة” ليس لحظة سيادية ولا مفترقًا تاريخيًا، بل محطة جديدة في مسلسل إدارة الأزمة اللبنانية. بين الوعود المعلّبة والواقع المرير، تتشكل تسوية خديعة، هدفها حفظ التوازنات الداخلية ورعاية حسابات الخارج، لا بناء الدولة ولا استعادة السيادة.

الدولة.. واجهة بقدرات فارغة

الحكومة تُعلن خطة بخمس مراحل وتقارير شهرية، كأنها تُمسك بزمام الأمور. لكن كل متابع يعرف أن الجيش نفسه مكبَّل: إمكاناته المالية متهالكة، قراره مرهون بالسياسة، ومجاله محصور بما تسمح به القوى الكبرى. ما يُقدَّم للناس كخطة سيادية ليس سوى أداة ضغط ومادة دعائية، لا مسارًا فعليًا لاستعادة الدولة.

حزب الله.. قبول لفظي ورفض جوهري

الحزب بارك الخطة بعبارات هادئة، لكنه ربط التنفيذ بانسحاب إسرائيلي كامل. عمليًا قال: “سلاحي لن يُمسّ إلا بشروط غير متاحة الآن”. هكذا يتحوّل القبول المعلن إلى رفض مقنَّع، ويُترَك الداخل عالقًا بين نصوص الدولة وميزان القوة الحقيقي.

الخارج.. واشنطن وصناعة الوهم

الولايات المتحدة سارعت إلى دعم الخطة، لكنها تدرك أن السلاح في لبنان عقدة إقليمية مرتبطة بإيران وإسرائيل. دعمها ليس التزامًا بحل جذري، بل ورقة تفاوضية في ملفات أوسع. إنها صناعة وهم تُسوَّق للبنانيين وللرأي العام، فيما يُدار الملف فعليًا على طاولة إقليمية.

نبيه بري.. اللاعب الذي لا يُمسّ

الحقيقة الأوضح وسط هذا الضباب: الأميركيون لا يريدون كسر نبيه بري. الرجل الذي يجمع بين شرعية طائفية راسخة وقدرة فريدة على تدوير الزوايا بين حزب الله والغرب، يبقى اللاعب الأقوى الذي لا أحد يجرؤ على إخراجه. لهذا تُصاغ أي تسوية بطريقة تراعي موقعه، فلا تُقصيه ولا تُحرجه، بل تضعه في قلب المعادلة ضامنًا ووسيطًا في آن واحد. في عين التينة، تُدار اللعبة بواقعية باردة: كل مسار يمرّ من هناك، لا من بعبدا ولا من السراي.

ما يجري اليوم ليس بداية حصر السلاح، بل لحظة انكشاف: الدولة تبيع شعارات، الحزب يفرض شروطه، الخارج يوظف الورقة في صراعاته، وبري يبقى الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه. هذه ليست تسوية لحل الأزمة، بل تسوية لإدامة الأزمة.

هل يقبل اللبنانيون والعرب والعالم أن يُدار لبنان بتسويات خديعة تحفظ مصالح الخارج وتكرّس نفوذ الداخل، بينما يُباع للشعب خطاب السيادة والوحدة؟ أم آن الأوان للاعتراف بالحقيقة المرة: لا دولة بلا قرار مستقل، ولا سيادة بخطط مؤجَّلة، ولا مستقبل طالما اللاعب الأقوى ليس مؤسسات الدولة، بل زعيم يعرف الخارج أنه لا يمكن تجاوزه؟