"لبنان ينتفض: سقوط قدسية السلاح ومواجهة مفتوحة مع حزب الله ونبيه بري"
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لم يعد المشهد في لبنان يحتمل التأويل. فبعد الهزيمة العسكرية التي مُني بها "حزب الله" وتراجع سطوته السياسية، لم يبقَ في جعبته سوى ورقة "أفيون الشارع"، وهي الورقة الأخيرة التي يحاول عبرها أن يحافظ على ما تبقى من نفوذه. لكن ما يغيب عن حساباته أن هذا الشارع لم يعد ملكه، وأن أكثر من 80% من اللبنانيين باتوا على استعداد للنزول لمواجهته، لا لمناصرته.
منذ صدور قراري الحكومة في 5 و7 آب 2025، يعيش الحزب حالة ارتباك وجودي. فخطابه لم يعد قادرًا على إقناع الناس، وتهديداته لم تعد تُرعب أحدًا. فمرّة يلوّح بـ"هيهات منّا الذلّة" عبر نقاباته وواجهاته العمالية، ومرّة يسحب دعواته بحجة "تلبية تمنيات المرجعيات الوطنية". إنها مسرحية مفضوحة: دعوة وتصعيد ثم تراجع وتبرير، والهدف جسّ نبض الشارع، لا أكثر.
لكن الخطورة لا تكمن فقط في الدعوات والتراجعات، بل في التناقض البنيوي الذي كشفه هذا السلوك. فكيف يمكن لموظف رسمي مثل علي حمدان، مفوّض الحكومة في مؤسسة تشجيع الاستثمارات "إيدال"، أن يتصدّر الشارع بدعوات للتظاهر ضد قرارات الحكومة نفسها؟ أليس هذا دليلًا على أن مؤسسات الدولة باتت مخترقة بالكامل من قبل "الثنائي"؟ كيف يمكن للمستثمر أن يثق بلبنان فيما أحد أبرز وجوه "الحكومة" هو في الوقت نفسه رأس حربة الشارع ضدها؟
هنا يظهر الدور المزدوج للرئيس نبيه بري. فبينما يُصوَّر على أنه "الوسيط العاقل" الذي يتدخل لتهدئة الشارع وتأجيل التحركات، فإن السؤال البديهي هو: كيف دُعيت التظاهرات أصلاً من دون علمه؟ هل يُعقل أن تمر هكذا خطوة تحت أنفه من دون أن يكون شريكًا في رسمها؟ أم أن الأمر ليس سوى توزيع أدوار، حيث يلوّح "حزب الله" بالفوضى، ثم يظهر بري بمظهر رجل الدولة، في محاولة مكشوفة للالتفاف على قرارات الحكومة وإضعافها؟
إن محاولة "حزب الله" إعادة إنتاج سطوته عبر النقابات والعمال والدراجات النارية لم تعد تنطلي على أحد. اللبنانيون يعرفون جيدًا أن كل تحرّك محسوب وموجّه، وأن "العفوية الشعبية" مجرد شعار لتغطية ماكينة منظمة. الإعلام الحزبي يصب الزيت على النار، الخطابات تُعيد إنتاج منطق "المظلومية"، والهدف النهائي هو واحد: فرض معادلة "السلاح مقابل الاستقرار".
لكن هذه المعادلة سقطت.
سقطت لأنها لم تعد تخيف اللبنانيين الذين خبروا ثمن الصمت.
سقطت لأن العالم لم يعد يشتري حجج "المقاومة" التي تحوّلت إلى أداة قمع داخلي.
وسقطت لأن الدولة لم يعد أمامها خيار سوى استعادة سيادتها كاملة، بلا شريك مسلح، وبلا "دويلة" داخل الدولة.
إن ما يفعله نعيم قاسم اليوم هو تكرار رديء لخطاب الحرب الأهلية. تهديدات مبطّنة، ووعود بالتصعيد، وكلمات كأنها خارجة من أرشيف الثمانينات. لكن ما لا يدركه قاسم أن الأرض لم تعد كما كانت. فالشباب اللبناني الذي هتف في الساحات عام 2019 "كلّن يعني كلّن"، أصبح اليوم أكثر نضجًا، وأكثر وضوحًا في تحديد عدوه الحقيقي: السلاح غير الشرعي الذي صادر الدولة وأفقر الناس ودمّر الاقتصاد.
ولكي نفهم خطورة المرحلة، يكفي أن نُقارن لبنان بتجارب دول أخرى:
العراق بعد 2003: تحوّلش السلاح الميليشياوي إلى لعنة دمرت مؤسسات الدولة وأعادت البلد عقودًا إلى الوراء.
اليمن: حين قررت ميليشيا الحوثي أن تضع نفسها فوق الدولة، انتهى البلد إلى حرب مفتوحة لا تزال تلتهمه حتى اليوم.
لبنان يقف الآن عند مفترق مشابه. إما أن يُكمل حزب الله في وهمه بأنه قادر على فرض إرادته بالسلاح، وإما أن يواجه الحقيقة المرّة: لا أحد، لا في الداخل ولا في الخارج، سيقبل بعد اليوم باستمرار هذه المعادلة الميتة.
إن الرد الحقيقي على "هيهات منّا الذلّة" هو أن لبنان لن يركع بعد اليوم. والرد الحقيقي على تهديدات الحزب هو أن 80% من اللبنانيين باتوا جاهزين للنزول إلى الشارع في مواجهة أي محاولة انقلابية على قرار الدولة.
لقد آن الأوان أن يُقال بوضوح:
على نعيم قاسم أن يضع قدمه على أرض الواقع بدل الغرق في أوهام الشعارات.
على نبيه بري أن يختار بين أن يكون رجل دولة أو شريكًا في لعبة الفوضى.
وعلى حزب الله أن يدرك أن زمن السلاح خارج سلطة الدولة قد انتهى… إلى غير رجعة.
لبنان اليوم يكتب معادلة جديدة: الشارع السيادي في مواجهة سلاح الميليشيا. هذه ليست معركة محلية فقط، بل رسالة إلى العالم العربي والدولي بأن بلد الأرز لن يُدار بعد الآن بالترهيب. إذا كان حزب الله يعتقد أن "أفيون الشارع" سيمنحه حياة جديدة، فعليه أن يستعد لصدمة كبرى: الشارع الذي يراهن عليه، هو ذاته الشارع الذي سيُنهيه.