أصوات المغتربين بين مطرقة النفوذ وسندان الديمقراطية: هل يُسرق استحقاق 2026؟

بقلم رئيسة التحرير ليندا المصري

أصوات المغتربين بين مطرقة النفوذ وسندان الديمقراطية: هل يُسرق استحقاق 2026؟

في بلد يعيش على إيقاع الأزمات المتوالدة، يقف لبنان اليوم أمام مفترق مصيري جديد: الانتخابات النيابية لعام 2026. ما يُفترض أن يكون محطةً دستورية لتجديد السلطة، تحوّل إلى ساحة اشتباك سياسي ـ طائفي يختصر معركة هوية وطنٍ يتأرجح بين ديمقراطية معطّلة وحسابات نفوذ لا تنتهي.

 

‎القضية ليست فقط في موعد الانتخابات، بل في جوهرها: من يملك الحق في تمثيل اللبنانيين المنتشرين حول العالم؟ هل يُسمح لهم بأن يصوّتوا لـ128 نائبًا كما يحق للمقيمين، أم يُحصرون بستة مقاعد رمزية تُفرغ دورهم من مضمونه؟

 

‎المادة 112 من قانون الانتخاب، التي استُحدِثت لتمثيل الاغتراب بستة نواب، تحوّلت إلى ساحة كسر عظم. المعارضة تطالب بشطبها وفتح الباب أمام المغتربين للتصويت الكامل من بلادهم، معتبرة أن حصرهم بمقاعد منفصلة يُحوّلهم إلى «جالية» لا إلى جزء أصيل من الشعب. في المقابل، يتمسّك الثنائي الشيعي ومعه التيار الوطني الحر بتطبيق المادة كما هي، بحجّة أن التصويت الواسع من الخارج يهدّد نفوذهم داخل بيئتهم المباشرة.

 

‎لكن خلف هذه الحجج القانونية، يختبئ خوف سياسي صريح: أصوات المغتربين، خصوصًا في أوروبا والأميركيتين والخليج، تميل لمصلحة قوى التغيير والمعارضة، ما يعني أن السماح لهم بالاقتراع الشامل قد يقلب المعادلات في قلب الدوائر التقليدية.

 

‎المفارقة أن من يُفترض أنهم أبطال المعركة– أي ملايين اللبنانيين في الانتشار – غائبون تمامًا عن النقاش. يتحدّث عنهم السياسيون كما لو كانوا أوراقًا انتخابية لا بشرًا. يُستخدمون كفزّاعة هنا، وكشعار ديمقراطي هناك، من دون أن يُسمع صوتهم مباشرة: كيف يريدون هم أن يُمثَّلوا؟ ما الذي يعنيه لهم التصويت من باريس أو سيدني أو أبيدجان؟

 

‎المبررات التي تُساق لتقييد اقتراع المغتربين ليست تقنية فقط، بل أمنية أيضًا: الخشية من ملاحقة مؤيدي حزب الله في الخارج، إدراجه على لوائح الإرهاب، صعوبة الترويج للائحة انتخابية هناك... كل ذلك يتحوّل إلى سبب إضافي لإبقاء المغترب بعيدًا عن القرار الوطني. لكن أليس هذا إقرارًا بأن الخوف يتقدّم على الديمقراطية؟

 

‎هذا الملف لم يعد محليًا. لبنان يضغط على الولايات المتحدة لتأمين أجواء آمنة يوم الانتخابات، فيما تُصرّ واشنطن على احترام المواعيد الدستورية ورؤية انتخابات تُنتج تغييرًا. هنا تطرح الأسئلة الكبرى: هل صار الاستحقاق اللبناني مرتهنًا كليًا للمناورات الإقليمية؟ وهل يملك الداخل فعلًا قرار إجراء الانتخابات أم أنّ الأمر مرتبط بمدى اتساع رقعة الحرب جنوبًا؟

 

‎وسط هذه المعمعة، يظهر رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون بموقف حازم: لا تأجيل ولا تمديد، وإلا فالمسؤولية على من يجرؤ على تعطيل الاستحقاق. هذا الإصرار قد يشكّل صمّام أمان، لكنه في الوقت نفسه يضع البلاد أمام اختبار قاسٍ: إمّا انتخابات في موعدها، وإمّا سقوط ما تبقّى من الشرعية الدستورية.

 

‎الجدل حول القانون والموعد يخفي حقيقة أبسط وأخطر: معظم القوى السياسية، رغم خطاباتها العلنية، تسعى في العمق إلى التمديد للبرلمان الحالي. الحجج جاهزة: الخلافات، المخاطر الأمنية، الظروف الدولية... لكن الهدف واحد: الإفلات من حكم الشعب وصندوق الاقتراع.

 

‎هل يُسمح للبنانيين المنتشرين، الذين يموّلون بلدهم ويُبقونه على قيد الحياة عبر تحويلاتهم، أن يكونوا شركاء حقيقيين في صناعة القرار، أم سيُختزلون بستة مقاعد كـرشوة سياسية لا أكثر؟

‎الجواب عن هذا السؤال لا يحدّد فقط مصير انتخابات 2026، بل يرسم صورة لبنان المقبل: جمهورية مواطنين أحرار، أم مزرعة محاصصة تُدار بالخوف والتأجيل؟