لبنان في العراء الدبلوماسي: بين برودة واشنطن وسخونة تل أبيب
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبدالحميد عجم
في لحظة سياسية تبدو فيها المنطقة على وشك إعادة ترتيب خرائطها، يقف لبنان وحيداً في عراء دبلوماسي قاسٍ، تتنازعه التناقضات الداخلية وتطوّقه التجاذبات الإقليمية والدولية. فالدبلوماسي العربي الذي يؤكد أنّ "لبنان ليس أولوية على الأجندة الأميركية" لا يصف واقعاً عابراً، بل يكشف حقيقة مرّة: لبنان خرج من قائمة الاهتمامات الكبرى، وبات ملفاً مجمّداً في ثلاجة واشنطن.
إدارة ترامب – وفق المؤشرات التي تسرّبت إلى الدوائر الدبلوماسية – لا تريد حرباً ولا سلاماً، بل تريد إبقاء لبنان في المنطقة الرمادية، منطقة اللاقرار، حيث يُمنع الانفجار ولكن يُمنع الحل في الوقت نفسه.
إسرائيل من جانبها تقرأ هذا الفراغ كضوء أخضر لمواصلة استعراض القوة على الحدود، فيما الدولة اللبنانية تبدو تائهة بين استعادة المبادرة أو انتظار المعجزة.
حين خرج رئيس الجمهورية جوزف عون ليتحدث عن إمكانية إحياء المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل، لم يكن يطلق مبادرة تفاوضية بقدر ما كان يخوض معركة رمزية داخلية.
الرجل، الذي يدرك أن واشنطن غائبة وتل أبيب متحفّظة، أراد أن يقول للمجتمع الدولي:
> “نحن لسنا جزءاً من الجمود، بل مستعدون للدخول في مسار التسوية الإقليمية.”
لكن خلف هذه العبارة الدبلوماسية تختبئ رسالة داخلية موجّهة إلى حزب الله: أن الشرعية التفاوضية يجب أن تعود إلى الدولة لا إلى السلاح، وأن الجيش هو الجهة الوحيدة التي تملك الحق في مخاطبة العالم.
بعبارة أخرى، جوزف عون لم يكن يفاوض إسرائيل… بل كان يفاوض الداخل اللبناني.
وكعادته، سارع الرئيس نبيه بري إلى قطع الطريق على أي حراك خارج سقف التفاهمات التقليدية.
بري، الممسك بمفاتيح اللعبة الداخلية والخارجية، كشف سريعاً أن إسرائيل رفضت المقترح الأميركي لوقف العمليات العسكرية وبدء مفاوضات غير مباشرة، ليُسقط عملياً فكرة إحياء التفاوض التي لوّح بها قائد الجيش.
لكنّ الحقيقة أعمق:
الرجل لم يكن يردّ على جوزف عون بقدر ما كان يحمي المعادلة الثلاثية التي يقوم عليها لبنان منذ 2006:
الجيش – الشعب – المقاومة.
ففي دولة معلّقة على توازن الخوف، يدرك بري أن أي محاولة لتغيير قواعد اللعبة قد تفتح باباً للفوضى السياسية والعسكرية، لذلك أبقى الباب موارباً دون أن يفتحه بالكامل
منذ أشهر، تتراجع حركة الموفدين الدوليين إلى بيروت. لا دعوة إلى شرم الشيخ، لا اهتمام من واشنطن أو باريس، لا وساطة خليجية فعّالة.
كلّ المؤشرات تقول إن لبنان خرج من دائرة الضوء الدولي، بعد أن كان لعقود جزءاً من كلّ تسوية كبرى في الشرق الأوسط.
ومن رحم هذا الشعور بالعزلة، خرجت فكرة “إحياء التفاوض” كصرخة سياسية تهدف إلى استدراج انتباه العالم مجدداً.
فالسلطة اللبنانية، التي تخشى أن تُترك لمصيرها، تراهن على أن أي ملفّ يحمل اسم “إسرائيل” سيجذب بالضرورة اهتمام واشنطن.
لكن المفارقة أن الولايات المتحدة نفسها هي التي تغذّي هذا الجمود، إذ لا ترى في لبنان اليوم أكثر من ساحة تهدئة مؤقتة بانتظار اتضاح مصير المنطقة بأكملها.
في الكواليس، تدور أحاديث عن “ترتيبات أمنية” قد تشبه ما جرى بين سوريا وتركيا في اتفاق أضنة عام 1998، حين أُعطيت أنقرة حقّ “التعقّب الساخن” داخل الأراضي السورية.
هل يمكن أن يُطرح في لبنان نموذج مشابه، يمنح إسرائيل حرية محدودة داخل الحدود الجنوبية بذريعة “منع التسلل” أو “الردع الوقائي”؟
الفكرة تبدو مستبعدة ظاهرياً، لكنها تتسلل همساً إلى النقاشات الدبلوماسية.
وإذا صحّت، فستكون أخطر انقلاب على معادلة الردع التي صمدت منذ حرب تموز، وستحوّل الجنوب من خط أحمر إلى منطقة رمادية تخضع لتفاهمات غير معلنة.
الحقيقة أن لبنان لم يُجمّد فقط على الأجندة الأميركية، بل تجمّد في ذاته.
السلطة السياسية عاجزة، والجيش محاصر، والمقاومة متوجّسة، والمجتمع الدولي متعب.
لم يعد لبنان طرفاً فاعلاً في معادلة الشرق الأوسط، بل بات ساحة اختبار لصبر اللاعبين الكبار.
في الماضي، كان لبنان يُستدعى ليكون جائزة أو وسيلة توازن.
اليوم، يُترك ليكون عبرة، نموذجاً لما تفعله الجغرافيا حين تفقد السياسة بوصلتها.
بين برودة واشنطن وسخونة تل أبيب، يقف لبنان في منتصف النار.
يتكلّم قادته لغة الدبلوماسية فيما ينهار الواقع تحت أقدام الناس.
تُطرح مبادرات تفاوضية بلا مفاوضين، وتُرسم خرائط أمنية بلا ضمانات، ويُتداول مستقبل الجنوب كما لو أنه حقل تجارب.
إنه لبنان ما بعد الاهتمام الدولي، لبنان الذي يتحدث عن التفاوض لأنه فقد القدرة على القرار، لبنان الذي يحاول أن يذكّر العالم بأنه لا يزال موجوداً.
لكن السؤال الأخطر:
هل يملك العالم فعلاً الرغبة في أن يسمع صوته؟
أم أن لبنان بات خارج السمع، في منطقة الصمت الدولي، ينتظر فقط من يكتب تأبينه الدبلوماسي الأخير؟