لبنان ليس دولة فاشلة… بل دولة أُفشِلت عمداً

بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لبنان ليس دولة فاشلة… بل دولة أُفشِلت عمداً

من السهل على دبلوماسي عابر أن يصعد منبرًا دوليًا ويصف لبنان بـ"الدولة الفاشلة".

لكن ما أصعب أن يرى ما وراء الرماد، وما بين الأركان المهدّمة، روح وطن لم يمت رغم كل الخناجر التي وُضعت في خاصرته.

لبنان لم يفشل.

بل أُفشل عمدًا.

أُفشل بسياسات خارجية مترددة، وبحسابات داخلية تُدار من الخارج، وباقتصاد تمّ تفريغه ليصبح ورقة تفاوض في لعبة الأمم.

القاهرة تتحرّك… ولبنان يتحفّز

في لحظة توتر متصاعدة على الجبهة اللبنانية–الإسرائيلية، تحاول القاهرة اليوم أن تضع على الطاولة "خطة" توقف النزيف: انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس داخل لبنان، مقابل تجميد نشاطات حزب الله جنوب الليطاني.

خطوة ذكية في التوقيت، وضرورية في الشكل، لكنها تكشف أن المنطقة تُدار اليوم بمقايضات النار لا باتفاقيات السلام.

زيارة رئيس الحكومة نواف سلام إلى القاهرة لم تأتِ لتوقيع اتفاقيات تقنية فحسب، بل لتذكير العواصم بأن لبنان لا يزال موجودًا، وأن الدولة التي يُراد تصنيفها "فاشلة"، قادرة أن تُنجب مبادرات وتوقّع تفاهمات وتدير علاقات عربية متوازنة.

لبنان لا يبحث عن شفقة أحد، بل عن احترام دوره في خريطة الشرق الأوسط الجديد.

واشنطن تتحدث بلغة الضغط… ولبنان يسمع بلغة الكرامة

حين يصف دبلوماسي أميركي لبنان بأنه "دولة فاشلة"، فهو لا يُطلق توصيفًا أكاديميًا، بل يُرسل رسالة سياسية خطيرة: أن لبنان أصبح في نظر بعض العواصم "ساحة تفاوض" لا "دولة شريكة".

هذا ليس توصيفًا، بل تهديد مقنّع: إمّا أن تُسلِّم سلاحك، وإمّا أن تُسلَب سيادتك.

لكن الحقيقة أن لبنان لم يفشل، بل يُعاقَب لأنه رفض أن يكون تابعًا كاملاً لأي محور.

هو يدفع ثمن موقعه الجغرافي، وثمن توازناته الدقيقة، وثمن عناده التاريخي في البقاء خارج الاصطفاف الكامل بين الشرق والغرب.

لبنان ليس بحاجة إلى من يُذكّره بضعفه، بل إلى من يعترف بصلابته.

بلدٌ بلا كهرباء، بلا مصارف، بلا استقرار سياسي… ومع ذلك لم يسقط.

أي "فشل" هذا الذي يعيش فيه الشعب رغم كل الانهيارات ويصرّ على البقاء؟

إنها معجزة البقاء اللبناني، لا مأساة الفشل.

رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع قالها بوضوح: المشكلة ليست في من يمثل لبنان، بل في من يحتكر السلاح.

لكن السؤال الأعمق: هل يمكن للبنان أن يحلّ معضلة السلاح خارج معادلة الإقليم؟

من قال إن نزع السلاح يُقرَّر في بيروت وحدها؟

الواقع أن كل سلاح في لبنان هو نتيجة فراغ سياسي، لا سببه.

حين تبني دولة حقيقية، تُصبح الأسلحة زائدة عن الحاجة.

لكن حين تُبقي الدولة بلا مؤسسات قوية، تُصبح البنادق "تأمينًا سياسيًا" في وجه المجهول.

الدبلوماسية التي تُهين الشعوب لا تصنع سلامًا

أن تصف لبنان بالفشل، يعني أنك تُهين فكرة الدولة العربية الصغيرة المقاومة للانقراض.

يعني أنك لا تفهم أن في بيروت ما زال هناك أطباء يعملون بلا رواتب، وجنود يحرسون الحدود رغم الجوع، وصحافيون يكتبون رغم التهديدات.

هل هؤلاء يعيشون في دولة فاشلة؟ أم في دولة تُركت وحدها تصارع حتى الرمق الأخير؟

الدبلوماسية الحقيقية لا تبدأ بالتقارير السوداء، بل بالاعتراف بالشعوب التي لم تفقد إنسانيتها رغم أن العالم فقد إنصافه.

من السهل أن تُعلن فشل لبنان، لكن الأصعب أن تعترف بفشل المنظومة الدولية في إنقاذه.

لبنان لا يُباع… ولا يُختصر في معادلة

الذين يسألون اليوم: هل لبنان سيعود؟

الجواب: لبنان لم يذهب أصلاً.

هو باقٍ، يتغيّر، يعيد تشكيل ذاته في أصعب امتحان سيادي واقتصادي وسياسي في تاريخه.

القاهرة قد تملك المبادرة، وواشنطن تملك النفوذ، وإسرائيل تملك القوّة، لكن لبنان وحده يملك ما لا يملكه الآخرون:

ذاكرة البقاء.

لبنان ليس دولة فاشلة.

هو دولة أُرهقت لكنها لم تستسلم، حوصرت لكنها لم تساوم، نُهبت لكنها ما زالت تلد الأمل من قلب الرماد.

أما الذين يوزّعون صكوك "النجاح" و"الفشل" من وراء المنابر، فربما آن لهم أن يسألوا أنفسهم:

من الذي فشل حقًا؟

الدولة التي صمدت رغم كل شيء؟

أم النظام الدولي الذي تركها وحدها تواجه المستحيل؟