كفى تحدياً للدولة: لبنان لا يُدار بالبيانات المسلحة

بقلم هئية التحرير خاص مراسل نيوز

كفى تحدياً للدولة: لبنان لا يُدار بالبيانات المسلحة

في لحظةٍ دقيقة من تاريخ لبنان، خرج "حزب الله" ببيانٍ مفتوح موجّهٍ إلى الرؤساء الثلاثة والشعب اللبناني، يعلن فيه بلهجةٍ تتجاوز كل الأطر الدستورية رفضه لأي تفاوض مع إسرائيل، واعتبار قرار الحكومة اللبنانية بشأن حصرية السلاح "خطيئة وطنية".

البيان لم يكن دفاعًا عن سيادة، بل إعلانًا صريحًا لسيادةٍ موازية.

لقد تحوّل الحزب، في مضمون رسالته، من "مكوّن مؤسّس للبنان" كما وصف نفسه، إلى مرجعية فوق الدولة، تُحدّد متى يكون السلم مشروعًا ومتى تكون الحرب "حقًّا مشروعًا"، متجاوزًا بذلك كل ما يمثّله الدستور من عقدٍ وطنيٍ جامع.

أيُّ دولةٍ في العالم تُدار ببيانات تصدر عن فصيلٍ مسلح يقرّر مصير الحرب والسلام من خارج مؤسساتها؟

منذ عام 2006، التزم لبنان بقرار مجلس الأمن 1701، وكان الهدف إنهاء دورة الحرب وبناء استقرارٍ دائم. لكن الحزب أعاد اليوم فتح الدائرة ذاتها، معلنًا أن "الدفاع المشروع لا يخضع لقرار السلم أو الحرب".

هذه العبارة وحدها كافية لإعلان سقوط مبدأ الدولة. لأن جوهر الدولة هو احتكار العنف الشرعي، لا أن يُمنح لأي جهة "حقًّا مشروعًا" خارج منظومة القانون والمؤسسات.

من يتحدث باسم لبنان؟ الحكومة المنتخبة أم التنظيم المسلح؟

من يقرّر مصير الحدود والهدنة والسياسة الخارجية؟ مجلس الوزراء أم القيادة الحزبية؟

هذه الأسئلة لم تعد نظرية. إنها تمسّ جوهر وجود لبنان نفسه.

في الخامس من آب الماضي، اتخذت الحكومة اللبنانية قرارها التاريخي بنزع السلاح غير الشرعي، استنادًا إلى الدستور واتفاق الطائف والقرار 1559. كان ذلك أول موقف واضح يعيد التأكيد على أنّ الدولة وحدها هي المرجع في الدفاع والأمن.

لكن البيان الأخير للحزب نسف هذا القرار علنًا، واعتبره "تنازلًا أمام العدو"، في انقلابٍ صريح على شرعية الدولة.

لم يعد الأمر مسألة رأي أو اختلاف في التفسير، بل تحدٍ مباشر للنظام اللبناني.

من لحظة صدور ذلك البيان، أصبح السلاح في مواجهة الدستور، وأصبحت الكلمة التي تُكتب في بيروت، تُراجع في الضاحية قبل أن تُنفّذ في السراي.

أخطر ما في المشهد أنّ الحزب لا يكتفي برفض التفاوض أو الشروط الدولية، بل يصادر قرار لبنان كأنه وصيٌّ عليه. يحدّد من هو الوطني ومن هو "الخائن"، ومن يحق له التكلّم باسم المقاومة ومن لا يحق له.

وهكذا يتحوّل الدفاع عن السيادة إلى أداة لنفي السيادة نفسها.

المفارقة أنّ الحزب، الذي يعلن أنه يقف "إلى جانب الجيش"، هو ذاته الذي يمنع الجيش من بسط سلطته على كامل الأراضي اللبنانية.

يعلن احترامه للرؤساء الثلاثة، وهو في الوقت نفسه يوجّه إليهم إنذارًا سياسيًا علنيًا، بلغة أقرب إلى أوامر الحرب لا إلى خطاب الشركاء في الوطن.

لقد آن الأوان أن يقول اللبنانيون والعرب والمجتمع الدولي كلمة واضحة:

لا يمكن لأي دولة أن تعيش بدستورين وسلاحين وقرارين.

إمّا دولة واحدة بجيشٍ واحد وسلطةٍ واحدة، أو لا دولة على الإطلاق.

لبنان الذي أعطى العالم دروسًا في الحرية لا يمكن أن يُختَزل في بندقية، ولا أن يُدار بالبيانات المسلحة.

المقاومة لا تكون ضد الدولة، ولا فوقها، بل في كنفها. وما لم يُستعَد هذا المبدأ، فكل هدنةٍ هي استراحة قصيرة بين انهيارين.

إنّ التحدي اليوم ليس مع إسرائيل وحدها، بل مع فكرة لبنان نفسها.

فإما أن نختار وطنًا يضم الجميع، أو نُسلّم بأنّ لبنان تحوّل إلى كيانٍ معلّق بين السماء والبارود، تحكمه البيانات بدل القوانين.

كفى تحديًا للدولة.

لبنان أكبر من سلاح، وأسمى من أن يُختصر في جبهة.