الخندق الواحد: كيف جعلت إسرائيل وحزب الله من لبنان رهينة بين نارين
بقلم الباحث والكاتب السياسي عبد الحميد عجم
في لعبة النفوذ الإقليمية، يمكن أن يظهر الطرفان الأعداء أحيانًا وكأنهما يقفان في خندق واحد ليس لأنهما حليفان، بل لأنهما يستفيدان من حالة لبنان غير السيادية. اليوم، إسرائيل من جهة و«حزب الله» من جهة أخرى، كلٌّ بطريقة مختلفة، يساهمان في إبقاء البلد في حالة هشاشة مستمرة. والضحية الوحيدة هنا هي سيادة لبنان وحقوق اللبنانيين في أن يقرروا مصير وطنهم بحرية.
الأسابيع الأخيرة حملت ضوضاءً دبلوماسية: مهلة زمنية، رسائل «تفهّم» لضربات محتملة، وتنازع على مصداقية الحلول. ما بين هذه الرسائل تظهر حقيقة واحدة: إذا أصبحت مقاييس الأمن خارج مؤسسات الدولة، فسيُصبح لبنان ملعباً لتبريرات خارجية لضرب ما تُسمّى «التهديدات». والمطلب الوطني الوحيد الجاد الذي يجب أن يتقدم هو: أن تتولى الدولة وحيدةً مهمّة ضبط السلاح وحماية الحدود وليس أن تُفرض عليها حلول مؤجلة تُؤدي إلى تبعات أكبر.
الجيش اللبناني لم يطلب أن يكون طرفًا في هذه المعركة الكلامية، لكنه يظل الضمانة الوحيدة لوحدة الدولة. لا نريد أن يُحمّل الجيش مهمة إعادة هندسة المجتمع بالقوة أو أن يُقحم في مواجهة داخلية تمزّق النسيج الوطني. بل نريد أن يحظى بدعم سياسي وشعبي لا متردد ليؤدي مهمته: فرض سلطة الدولة، حماية الحدود، منع تهريب السلاح، وحماية المدنيين.
الجيش ليس بديلًا عن تسوية سياسية، لكنه الشرط الأساس لأي اتفاق. لا سيادة بلا جيش قوي ومحايد، ولا استقرار بلا مؤسسات تُطبق القانون على الجميع دون استثناء.
قد يبدو التساؤل مبالغًا، لكن الواقع الاستراتيجي يقول إن الطرفين رغم عدائهم التاريخي يستفيدان من حالة الحالة اللبنانية كما هي:
إسرائيل تجد في حالة الفوضى مبررًا لتوسيع عملياتها الأمنية، وتبريرًا لعمليات تضييق لمنع أي تهديد من الجنوب.
حزب الله بدوره يستمد شرعيته الداخلية من خطاب المقاومة والتهديد الخارجي؛ وسلاحه الموازي يبقيه لاعبًا مؤثرًا في معادلات السلطة والقرار.
النتيجة: كلا الطرفين، بطريقة أو بأخرى، يربح من بقاء لبنان غير القادر على حسم قراره الوطني وفرض سيادته. وهنا يتحول العداء الظاهري إلى حالة متقاربة في المصلحة — مصلحة إبقاء الحالة اللبنانية بمستوى «مقبول من الاضطراب» الذي يمنع ولادة دولة فعالة مستقلة.
لا أحد يُنكر أن حصر السلاح مطلب دستوري وسياسي لأجل استقرار لبنان. لكن تحويل ذلك إلى مهلة زمنية صمّاء دون تسوية سياسية داخلية وخارجيّة يعدّ مخاطرة. حصر السلاح ناجح فقط عندما يكون جزءًا من صفقة وطنية شاملة: حماية للجيش، ضمانات أمنية للحدود، برامج دمج أو تعويضات لمن ترك سلاحه وفق القانون، ودور أممي/دولي واضح في المرحلة الانتقالية.
المطلوب الآن من الحكومة والبرلمان وكل القوى الوطنية: وضع خارطة طريق سيادية واضحة، مع خطوات تنفيذية شفافة تُقيس بالأفعال لا بالوعود.
كفى من أن يتحول النقاش إلى محاور وشعارات طائفية. يجب أن يكون المعيار الوحيد هو مصلحة لبنان: جيش قوي، مؤسسات فعالة، وقانون يطبّق على الجميع. من يؤمنون بالسيادة الحقيقية لا يقبلون أن يُستخدم سلاح خارج الدولة لتأمين مكاسب سياسية أو مقامية.
نداء واضح أيضاً للمجتمع الدولي: لا تقدّموا مهلًا تُحوّل لبنان إلى مسرح لتجارب إقليمية. ادعموا بناء مؤسسات لبنانية قادرة على فرض القانون، لا دعمًا يجعل من تدخلات أخرى ذريعة.
إذا أردنا أن نصنع معجزة، فهي ليست معجزة عسكرية ولا معجزة سياسية مؤقتة؛ بل معجزة بناء دولة. الدولة التي تحمي مواطنيها، والجيش الذي يحمي الدولة، والمواطنون الذين يقفون خلف مؤسساتهم وليس خلف بنادق تنازع الشرعية.
دعونا نضع نهاية للمشهد الذي يجعل من إسرائيل وحزب الله محورين يتحكّمان بمصير لبنان بطريقة تجعل الدولة ضحية. لنضع الجيش في مركز السيادة، ولنطالب بخطة وطنية للحصر تُنفذ بضمانات محلية ودولية تحترم قرار اللبنانيين. حينها فقط سيصبح الخندق الذي نحتمي فيه هو خندق الوطن لا خندق المحاور، ولا خندق الخارج.