غزة تحترق: حين يصبح القصف وسيلة تفاوض والتهجير هدفًا سياسيًا

بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

غزة تحترق: حين يصبح القصف وسيلة تفاوض والتهجير هدفًا سياسيًا

منذ التاسع من سبتمبر/أيلول 2025، حين حاولت إسرائيل اغتيال وفد مفاوض من حركة "حماس" في الدوحة، دخلت الحرب على غزة طورًا جديدًا، أكثر دموية ووضوحًا في أهدافه. لم يعد الأمر مجرد "عملية عسكرية محدودة" كما تصفه بيانات الجيش الإسرائيلي، بل تحول إلى اجتياح بري وجوي متواصل يستهدف المدينة المكتظة، في وقتٍ تدفع فيه الولايات المتحدة بمسارين متوازيين: مفاوضات عبر قطر من جهة، وتصعيد عسكري ميداني من جهة أخرى.

واشنطن تحاول تسويق نفسها وسيطًا عبر مفاوضات تبادل الأسرى، لكنها في الواقع تدعم استراتيجية إسرائيل القائمة على "التدمير تحت النار" لإجبار حماس على قبول شروط مذلة: التخلي عن الحكم والسلاح وتسليم الأسرى دون أي التزام بانسحاب إسرائيلي أو ضمان مشاركة الحركة في مستقبل القطاع.
هذه الازدواجية الأميركية – الجمع بين عصا الضغط العسكري وجزرة التفاوض – تكشف أن الهدف أبعد من استعادة الرهائن: إنه إعادة تشكيل غزة سياسيًا وديموغرافيًا.

قرار توسيع العملية البرية جاء بعد خلاف علني بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير، انتهى بفرض قرار سياسي واضح: قصف متتالٍ لمربعات سكنية مأهولة فوق رؤوس المدنيين. النتيجة كارثية: آلاف الضحايا، مئات تحت الأنقاض، وفرق إنقاذ عاجزة بفعل القصف المتواصل.
إسرائيل لم تعد تكتفي بالتحذيرات الهاتفية أو إسقاط المنشورات. بل باتت تعتبر المدنيين جزءًا من معركة الضغط، بين خيارين لا ثالث لهما: الموت تحت القصف أو النزوح القسري جنوبًا تحت نيران الطائرات والدبابات.

التصريحات الأخيرة لوزراء اليمين الإسرائيلي تكشف الوجه الحقيقي للعملية: الحديث عن تحويل شمال غزة إلى منطقة خالية من السكان ووعود بإقامة مستوطنات لاحقًا. هذا الخطاب، إذا قُرئ مع ممارسات التهجير الجماعي، لا يشي فقط بحرب على حماس، بل بمحاولة هندسة جغرافية جديدة لغزة شبيهة بما جرى في رفح وخانيونس خلال الأشهر الماضية.

رغم تحذيرات "حماس" بأن استمرار القصف يهدد حياة الأسرى، تجاهلت إسرائيل والعائلات الإسرائيلية نفسها تعيش كابوسًا: هل ستعود جثث أبنائهم بدلاً من عودتهم أحياء؟ لكن حكومة نتنياهو تفضل الاستمرار في الحرب على المجازفة بمكسب سياسي قصير، مهما كانت الكلفة الإنسانية.

مأزق استراتيجي

هل تستطيع إسرائيل فرض استسلام كامل على غزة من دون أن تغرق في مستنقع احتلال طويل؟

هل تقدر واشنطن على الجمع بين صورة "الوسيط" وواقع "الشريك في القصف" من دون أن تخسر ما تبقى من شرعية دولية؟

وهل يمكن للعالم أن يتجاهل بعد الآن مؤشرات "النقل القسري" و"الاستهداف المتعمد للمدنيين" التي تقترب من تعريف جرائم الحرب في القانون الدولي؟

غزة ليست فقط ساحة مواجهة بين جيش ودركة مقاومة. إنها اليوم مختبر سياسي وأخلاقي للعالم كله: هل نسمح بتحويل مدينة كاملة إلى جغرافيا محروقة تحت شعار "محاربة الإرهاب"، أم نقف أمام مشروع قد يعيد إلى الأذهان أعتى صفحات التهجير القسري في التاريخ الحديث؟

المعركة ليست فقط على مستقبل غزة، بل على مصداقية النظام الدولي نفسه.