ضمانات. أم استسلام؟ كيف تُباع الحقوق الدستورية مقابل سلاحٍ متهالك
بقلم الباحث و الكاتب السياسي عبد الحميد عجم

لم يعد النقاش في لبنان حول شرعية سلاح حزب الله نقاشًا أمنيًا أو عسكريًا. لقد انزلق إلى مستوى أكثر خطورة: إلى سوقٍ سياسية تُباع فيها الحقوق الدستورية على طاولة المساومات، مقابل الاحتفاظ ببندقية فقدت مبرر وجودها.
فجأة، بات الحديث عن «إصلاح اتفاق الطائف لا يرتبط برؤية وطنية جامعة، بل بمقايضة مباشرة: منصب نائب لرئيس الجمهورية للشيعة، وزارة مال محجوزة في الدستور، مجلس شيوخ طائفي… كل ذلك كتعويض عن فكرة التخلّي عن السلاح. وكأنّ السيادة تُشترى وتُباع، وكأنّ الكرامة الوطنية قابلة للتفاوض.
لكن لنسأل السؤال الجوهري: هل هذه ضمانات. حقًا، أم مجرّد استسلام مُقنَّع؟
منذ 2006، كان السلاح عنوانًا للتوازن مع إسرائيل. لكن مع حرب «إسناد غزة» في 2023 واغتيال حسن نصرالله في 2024، انكشفت الحقيقة: لم يعد السلاح عامل ردع، بل عامل استنزاف. إسرائيل وجدت فيه الذريعة المثالية للبقاء في الجنوب. أي أنّ ما يُسوَّق كـ مقاومة، صار عمليًا الضمانة لبقاء الاحتلال.
هنا يكمن التناقض القاتل: البندقية التي وُلدت بدعوى تحرير الأرض، أصبحت السبب المباشر في استمرار احتلالها.
الأخطر من كل ذلك أنّ السلاح لم يعد يحاصر لبنان خارجيًا فقط، بل حوّل الطائفة الشيعية نفسها إلى رهينة. بدل أن يكون ضمانة لأمنها، أصبح حائطًا يعزلها عن بقية اللبنانيين وعن عمقها العربي الطبيعي.
في الداخل: يُختصر الشيعة في صورة الحزب، فيُحمّلون تبعات قراراته ولو لم يشاركوا فيها.
في الإقليم: فُرضت عليهم قطيعة مع الخليج، مصدر الحياة الاقتصادية للبنان.
في العالم: صارت هويتهم مرادفة لولاء خارجي، فيما غالبيتهم تريد دولة طبيعية، لا مشروعًا عابرًا للحدود.
أي ضمانات أصدق من العيش الكريم في دولة عادلة؟ وأي استسلام أفظع من أن تُختصر طائفة بتاريخها وثقافتها في سلاح لا يمثلها؟
إن أخطر ما يُطرح اليوم هو تكريس أعراف جديدة باسم الضمانات: منصب نائب للرئيس، مجلس شيوخ مُفصّل على مقاس الطوائف، وتثبيت وزارة المال كحق حصري لطائفة واحدة. هذه ليست إصلاحات، بل نسف لفكرة الدولة المدنية التي نصّ عليها الطائف.
إنها صفقة خاسرة من البداية:
الطوائف تُحوَّل إلى إقطاعات.
الدستور يُجزَّأ إلى حصص.
السلاح يبقى، والدولة تضعف أكثر.
المعادلة التي يحاول الحزب فرضها اليوم خطيرة: إمّا أن تحصلوا على ضمانات دستورية، وإمّا أن يبقى السلاح فوق رؤوسكم. لكن السيادة ليست بضاعة، والدستور ليس سوقًا. الحقوق لا تُنتزع ببندقية، بل تُؤخذ عبر صناديق الاقتراع والمؤسسات الشرعية.
القبول بهذه المقايضة يعني ببساطة شرعنة السلاح كمصدر للشرعية، لا إزالته. وهذا استسلام مكتمل الأركان.
الطريق إلى الأمام
الحل ليس في منح امتيازات جديدة، بل في إعادة الاعتبار للدولة:
جيش واحد يحتكر السلاح.
دستور يُطبّق على الجميع بلا استثناء.
إصلاحات تدريجية تُخرج لبنان من الطائفية لا تُغرقه فيها.
عودة لبنان إلى حضنه العربي والدولي عبر سيادة حقيقية، لا عبر مساومات محلية.
الضمانات التي تُطرح اليوم ليست سوى غطاء للاستسلام. السلاح الذي قُدِّم يومًا كرمز قوة، تحوّل إلى سلاح متهالك يُباع في سوق الطائفية بأبخس الأثمان.
لبنان لا يحتاج إلى مقايضات جديدة، بل إلى قرار جريء: أن يستعيد سيادته كاملة. فالضمانة الوحيدة لكل طائفة، ولكل مواطن، ليست في بندقية ميليشيا، بل في دولة عادلة وجيش وطني ودستور حيّ.
حين يسقط منطق «دالسلاح مقابل الحقوق، يولد لبنان جديد. لبنان لا يُباع ولا يُشترى.